إذا لم نقاتل دفاعاً عن أرضنا ... فلن يدافع أحد بدلاً عنا

معتصم حمادة

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 منذ 15/11/1988 إعلان الإستقلال في المجلس الوطني، وإعلان الرئيس الراحل ياسر عرفات قيام دولة فلسطين، ومسار «الدولة» يتعزز في عالم الدبلوماسية، وقد وصل عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين 149 دولة، كما تتهيأ بعض الدول في فترة قادمة للاعتراف هي أيضاً بها، وكذلك تعزز موقع دولة فلسطين في الأمم المتحدة، حين نالت العضوية المراقبة في الجمعية العامة بموجب القرار 19/67 (2012)، ثم تعزز الموقع التمثيلي للدولة، حين نالت حق التصويت في الجمعية العامة، دون نيل العضوية الكاملة، التي ما زالت تصطدم في مجلس الأمن بسور الفيتو الأميركي، كما أن بعض الدول ما زال يرهن إعترافه بدولة فلسطين بتطبيق ما يسمى «حل الدولتين»، أي عبر المفاوضات الثنائية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في ظل تعطيل متعمّد لهذه المفاوضات على يد الجانبين الإسرائيلي والأميركي، الذين تراجعا في السنة الماضية (نتنياهو) والحالية (ترامب) عن تأييدهما قيام دولة فلسطين، ويطرح كل منهما، من جانبه، رؤيته الخاصة لمستقبل القضية الفلسطينية، ليس من بينها حق تقرير المصير، وقيام دولة فلسطين، أو حق العودة للاجئين.

وبالتالي بتنا أمام حالة فلسطينية مركبة:

• دولة فلسطينية، عضو في الأمم المتحدة، لها سفاراتها وقنصلياتها المنتشرة في أرجاء العالم، بما في ذلك الدول التي لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسططينية، كباريس ولندن، ما يعني تواجد دولة فلسطين كحالة سياسية، دبلوماسية، وكمشروع وطني، ينال تأييداً شبه كامل من المجتمع الدولي (دون أن يترجم لدى البعض إلى الاعتراف بالدولة).

• كيان مؤسساتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، يستند إلى قانون أساسي لسلطة حكم إداري ذاتي، مسلوبة السيادة، فاقدة القدرة للدفاع عن صلاحياتها، كما يعرّفها «إتفاق أوسلو» وبروتوكالاته، خاصة الاقتصادي منه، ترفع شعارات تعجز هي عن نطبيقها، كشعار «سلطة واحدة، قانون واحد، وسلاح واحد».

ففي الضفة الغربية وقطاع غزة، أكثر من سلطة، سلطة الاحتلال واحدة منها، وفيهما أكثر من قانون، قوانين الإدارة المدنية لدولة الاحتلال واحدة منها، وفيها أكثر من سلاح، خاصة سلاح الاحتلال الذي يشكل السلاح صاحب السلطة والقدرة على القتل والتهجير.  

من مؤسساتها «سلطة نقد» تخضع مرغمة لقرارات المؤسسات المالية للإحتلال، خاصة وزارة المالية. وحرية حركة كبار المسؤولين فيها، تخضع هي الأخرى لموافقات مسبقة من الإحتلال، في الوقت نفسه يتحدث كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية أن هذه السلطة باتت أقرب إلى الدولة، ولا ينقص للقيام بهذه الخطوة سوى زوال الإحتلال، وكأن زوال الإحتلال مسألة جزئية وليست هو المسألة.

تجاور السلطة ومؤسساتها مؤسسات لمنظمة التحرير الفلسطينية، كاللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني، والأمانات العامة لعدد من الإتحادات الشعبية بإعتبارها من مؤسسات م. ت. ف.

لرئاسة اللجنة التنفيذية منصب مركب، هو رئيسها من جهة، ورئيس دولة فلسطين من جهة أخرى، في الوقت نفسه، لم يعد هناك ذكر لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية سوى في القانون الأساسي للسلطة، وفي الإعلان الدستوري الأخير الذي خول رئيس المجلس الوطني الفلسطيني (بصفته المزدوجة وطني وتشريعي)، ملء الفراغ،

في حال خلو منصب رئيس السلطة، ولفترة مؤقتة.

وهكذا نكون أمام وجهين لدولة فلسطين:

• وجه براق يعيد تقديم الشعب الفلسطيني عبر دولته، عضواً فاعلاً في المجتمع الدولي وفي الحضارة الإنسانية، بعدما تعرض لفترة غير قصيرة لمحاولات التذويب.

 ومن جهة أخرى واقع ميداني، فيه من الزيف أكثر مما فيه من الحقيقة، يعيش حالة تراجع يومي في سياقه العام، بفعل سياسات الإستيطان والضم، والتدمير والتهجير لمدن شمال الضفة ومخيماتها، واستقواء على المزارعين والفلاحين، في حملات سطو شبه يومية لعصابات المستوطنين، دون أن تغيب أعمال القتل والإعتقالات اليومية، والزج بالعشرات يومياً في سجون الاحتلال، وإلحاق الضرر اليومي بالإقتصاد، ما دفع رئيس الحكومة الفلسطينية السابق محمد اشتيه للإعتراف، بعد ترويج صارخ لمشروع «العناقيد الاقتصادية»، أن النمو مستحيل في ظل الإحتلال، أي أن دورتنا الكاملة لقراءتنا للحالة المستمرة، تعيدنا بالضرورة إلى الواقع الحي: الإحتلال وبدون الخلاص من هذا الإحتلال، لا سبيل إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وإقتصاد وطني مزدهر، ومواطن يشعر بالأمن والإستقرار، توفر له دولته سبل العيش الكريم. وهو ما يدعونا للتأكيد أن مفتاح الحل هو بيد الفلسطينيين، فهم أصحاب القضية، وأصحاب الأرض، وأصحاب الحق، وهم المعنيون ببناء دولتهم المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس المحتلة، المدينة المسلوبة، الجزء الأبرز من المشروع الوطني الفلسطيني، لم تقدم السلطة حتى الآن رؤية لخلاص لم تقدم السلطة هذه المدينة، خاصة بعد أن ضمتها إسرائيل واعترفت بها دول كالولايات المتحدة عاصمة لدولة الاحتلال.

مشكلة الفلسطينيين أن رؤياهم لعمل وطني مشتتة، فالنخب الحاكمة في السلطة وفي م. ت. ف. تدعو لـ«مقاومة سلمية» للخلاص من الاحتلال، لكنها وبدلاً من أن تقدم تعريفاً واضحاً لمفهوم «المقاومة السلمية»، وبدلاً من أن تتحمل هي مسؤولياتها في برمجة «المقاومة السلمية» تحجم عن هذا كله، وتستبدله بالرهان على العنصر الخارجي للحل، كدعوة الأمم المتحدة لحماية الشعب الفلسطيني من غطرسة الاحتلال عبر قوات دولية، أو إتخاذ قرارات، في سياق مؤتمر دولي، تلزم الاحتلال بالإنسحاب.

في الوقت نفسه، ما زالت م. ت. ف. تعترف بشرعية وجود، بل حق إسرائيل في الوجود (وثيقة 9/9/1993) وتؤكد على إلتزاماتها الدولية إزاء الاحتلال الإسرائيلي، إقتصادياً، وأمنياً، ومالياً، في الوقت الذي تقرّ فيه أن الجانب الإسرائيلي، ومنذ زمن غير قصير، أخلّ بكل هذه الإلتزامات، وإنتقل من الشريك في صنع «السلام» (وهو الدور الذي لم يقم به أصلاً) إلى دولة إحتلال، تنهب الأرض، وتقتل الشعب وتعمل على تهجيره وتدمير مصالحه، وترفض الإعتراف بالحد الأدنى من حقوقه الوطنية المشروعة، كما أقرتها وتكفلها قرارات الأمم المتحدة.

بالخلاصة يمكن القول أن هناك الشيء الكثير الذي يمكن فعله تحت سقف «المقاومة السلمية»، لكن النخب الحاكمة في السلطة الفلسطينية، والممسكة بزمام قرارات م. ت. ف. لا تقدم على ذلك، في سياسة، كما ذكرنا أعلاه، تقوم على الرهان على العنصر الخارجي، وتعطيل دور العنصر المحلي.

تاريخ حركات التحرر حافل بالتجارب الغنية، والتي شكل بعضها إلهاماً للنخب الثورية في الحالة الفلسطينية، حين أطلقت في 1/1/1965 رصاصاتها في مقاومة مسلحة، أخذت مداها الفعلي بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967.

ففي الجزائر قادت الثورة جبهة التحرير الجزائرية، في الجانب الدبلوماسي والسياسي بواسطة حكومة المنفى، وفي الميدان بواسطة جيش التحرير، في تبادل نضالي أدى إلى تحقيق أهداف التحرير في 8 سنوات من النضال.

وفي فيتنام قادت الثورة جبهة التحرير الفيتنامية، في الجانب الدبلوماسي والسياسي والتفاوضي عبر حكومة المنفى، وفي الميدان عبر قوات الثورة «الفيت كونغ»، ما أرغم الاحتلال الأميركي على الفرار، ما شكل إهانة فاضحة لما يسمى عظمة الولايات المتحدة.

تجربتان غنيتان، لجأت فيها قوى الثورة إلى إعتماد الدبلوماسية من جهة، والقتال في الميدان من جهة أخرى، يتفاعل كل منها مع الآخر، في ظل وحدة نضالية، وبقيادة مؤسسات تلتزم قرارات المؤتمرات الدورية التي تعقدها قيادة الثورة، وعبرها تعبئ كل الشعب، وهذا الشيء المفقود في الحالة الفلسطينية في الوقت الراهن.

«مقاومة سلمية» لا تعريف لها، ولا وجود لها في الميدان، و«مقاومة شعبية شاملة بكل الوسائل» ما زالت عند حدود التبشير.

وبالتالي، بات على الفلسطينيين في ظل الوضع الذي آلت إليه قضيتهم الوطنية، وفي سياق تطورات إقليمية دراماتيكية، أن يعيدوا النظر في آليات تعاطيهم مع الاحتلال، بحيث يتلازم العمل المقاوم في الميدان مع العمل المقاوم في السياسة والدبلوماسية بكل ما يتطلبه ذلك من مؤسسات وخطط وخطوات وأدوات، تستند إلى رؤى تؤمن بالواقعية الثورية، لا واقعية الرهان على المجهول.

لا بد أن يدرك الفلسطينيون أننا إذا لم نقاتل دفاعاً عن أرضنا، فلن يدافع أحد بدلاً عنا

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023