الشيخ رائد صلاح
أعداء الخلافة الإسلامية بالأمس القريب واليوم هم صنفان: الصنف الأول من سعى إلى إسقاط الخلافة الإسلامية التي قام عليها ورعاها الدولة العثمانية. هذا الصنف الأول لم يجد حرجًا في أن يتخفى بـ”طاقية خفاء” اسمها القومية العمياء المستوردة من الصليبية الغربية، ولم يجد حرجًا في أن يضع يده بيد الصليبية الغربية، وأن تتقاطع أهدافه مع أهداف الحركة الصهيونية بهدف إسقاط الخلافة الإسلامية.
كما لم يجد حرجًا في أن يتقن فن التمثيل على حاضرنا الإسلامي والعربي في الحقبة الواقعة بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، فتقمص في خطابه وكتاباته المصطلحات القرآنية والنبوية لتمرير مفاهيم القومية العمياء المستوردة من الصليبية الغربية.
حيث انطلق هذا الصنف من مبدأ أن القومية تعني -وفق حساباته- إعلان الحرب على الخلافة الإسلامية والعمل على إسقاطها... لذلك، أطلقت عليها القومية العمياء، وإلا لو كانت قومية مبصرة لأدرك أصحابها أنها عنصر مكمل ومساند للخلافة الإسلامية، وليست عنصرًا مصادمًا لها أو ساعيًا إلى إسقاطها. لكن، مع شديد الأسف، كانت قومية عمياء تقوم على فن التمثيل والتصنع والتمظهر بما يخفي حقيقة أهدافها.
فإلى جانب تقمص دعاتها استخدام المصطلحات القرآنية والنبوية لفظًا لا مضمونًا، اجتهدوا أن يبنوا شبكة صحف تمثل ذراعهم الإعلامي في العالم العربي، وبناء بدايات مجموعة أكاديميات في العالم العربي لتكون بمثابة محاضن لقوميتهم العمياء، طامعين بواسطتها غرس هذه القومية العمياء في عقول طلابهم، وآملين -وفق حساباتهم- إعداد جيل عربي مثقف ينطق باسم القومية العمياء، ويهون عليه إعلان الحرب على الخلافة الإسلامية والعمل على إسقاطها.
ومن أجل إتقان فن التمثيل على أعلى مستوى، فقد لجأ دعاة هذه القومية العمياء إلى دعم سلسلة جمعيات في العالم العربي حملت أسماء براقة، كدعم حقوق المرأة، ومحو الأمية، وإسناد الحركة الأدبية، وغيرها.
بل إن بعض دعاة هذه القومية العمياء لم يتردد في دعم بعض التحركات العربية بالسلاح، تلك التي أعلنت التمرد على الخلافة الإسلامية العثمانية. ثم، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية مؤقتًا عام 1924، واحتفل بسقوطها دعاة القومية العمياء والصليبية الغربية والحركة الصهيونية، فُتحت أبواب المآسي على العالم العربي، ولم توصد حتى الآن.
فوقعت نكبة فلسطين، وتمزق العالم العربي إلى شذر ومذر، وقامت بريطانيا وفرنسا برسم خارطة العالم العربي، وهي الخارطة التي عُرفت بـ”سايكس-بيكو”، والتي لا تزال تُحدد حدود العالم العربي.
وانتقل العالم العربي من مرحلة الانتماء إلى الأمة الإسلامية العربية إلى مرحلة التمزق العربي، ومن مرحلة الهم الإسلامي العربي الواحد إلى مرحلة التشرذم، ومن مرحلة السيادة الإسلامية العربية إلى مرحلة التبعية المعيبة للصليبية الغربية والحركة الصهيونية حتى الآن.
ومن مرحلة الانضواء تحت راية الخلافة الإسلامية الجامعة إلى مرحلة الحكم الجبري الذي أضاع القرآن والإنسان والأوطان، واستولت فيه على العالم العربي أنظمة حاكمة بين إقطاعية وملكية وقومية عمياء حتى الآن.
ولا يزال هذا العالم العربي المسكين يئن تحت وطأة تبعات إسقاط الخلافة الإسلامية التي، لم تكن مثالية وكان لها عثرات، ولكن كان من الممكن إصلاح هذه العثرات. وكان من الواجب الحفاظ على مقام الخلافة الإسلامية ومنزلتها وسيادتها كحاضنة لكل الأمة الإسلامية والعالم العربي، ولكل قضاياها، بما في ذلك الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية.
وهكذا، لا يزال العالم الإسلامي والعربي مكبين على وجههما، ولا يزالان حقل تجارب فاشلة للأفكار المستوردة، والحلول المستوردة، والزعامات المستوردة، إلا من بدايات تجسد بارقة أمل على الصعيد الإسلامي العربي.
وقد تكون بارقة الأمل هذه هي ميلاد صحوة إسلامية راشدة تسعى لصناعة تكامل إسلامي-عروبي، وتسعى إلى تجاوز مرحلة الصدام المفتعل بين الإسلام والعروبة، وبين الانتماء لعالم عربي وأمة إسلامية، وبين الدور التاريخي العربي والدور التاريخي التركي.
وتسعى هذه الصحوة إلى تجديد أمر الإسلام كعقيدة وعبادة وقيم وشريعة في مسيرة الأمة الإسلامية والعالم العربي، وتسعى إلى تجاوز مرحلة تخدير الشعوب المسلمة والعربية التي قامت بها هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.
وقد تكون بارقة الأمل هذه هي ميلاد بدايات تكوّن للمشروع الإسلامي في أكثر من موقع، ما بين الجزائر ومصر وتونس. وكما هو واضح، تمالأت على هذه البدايات قوى عربية وأعجمية، وجهود مسلمين تائهين وغير مسلمين، وقامت هذه القوى والجهود بإحباط كل هذه البدايات للمشروع الإسلامي في كل المواقع. وقد تكون بارقة الأمل هذه هي بدايات نهضة حضارية ذات رؤية إسلامية لعدد نادر من الدول المتمكنة أو الناشئة في حدود هذا المحيط الواسع الإسلامي والعربي.
ومن الواضح أن هناك إستهدافا لإفشال هذه الدول وإغراقها في مستنقع الفتن العمياء الداخلية.
وهؤلاء الساعون اليوم لإفشال كل بارقة أمل، سواء كانت في حدود صحوة إسلامية، أو مشروع إسلامي، أو نهضة دولة متمكنة أو ناشئة ذات رؤية إسلامية، هم الصنف الثاني من أعداء الخلافة الإسلامية.
فإذا سعى الصنف الأول المعادي للخلافة الإسلامية إلى إسقاطها، فإن الصنف الثاني المعادي للخلافة الإسلامية يسعى إلى إفشال كل فرصة لعودتها اليوم. وبطبيعة الحال، هم الفاشلون، لأن عودة الخلافة على منهاج النبوة هو وعد حق سيكون يقينًا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشرنا بذلك.
وإذا كان الصنف الأول المعادي للخلافة الإسلامية يحمل وزرًا ثقيلًا لنكبة فلسطين، فإن الصنف الثاني المعادي للخلافة الإسلامية اليوم يحمل وزرًا ثقيلًا للإبقاء على نكبة فلسطين. وإذا كان الصنف الأول المعادي للخلافة الإسلامية قد تسبب بتمزيق العالم الإسلامي والعربي، فإن الصنف الثاني المعادي للخلافة الإسلامية لا يزال يتسبب بنكبة العالم الإسلامي والعربي. وكلا هذين الصنفين المعاديين للخلافة الإسلامية رضيا لأنفسهما أن يكونا أعداء النهضة الإسلامية العربية.
ومما يلفت الانتباه أنني عندما قرأت عن حياة وأساليب عمل دعاة القومية العمياء في الماضي، الذين سعوا لإسقاط الخلافة الإسلامية، والذين هم من بني جلدتنا العربية، ثم عندما قارنت بين أساليب عملهم لإسقاط الخلافة الإسلامية وبين أساليب عمل أتباعهم الأحياء اليوم، الذين يواصلون الدعوة إلى القومية العمياء، والذين يواصلون السعي لمنع عودة الخلافة الإسلامية، والذين هم من بني جلدتنا العربية، وجدتها متطابقة.
ووجدت أن دعاة القومية العمياء المحاربين لعودة الخلافة الإسلامية اليوم لم يأتوا بجديد. فهي الأساليب ذاتها التي تبناها من سعوا لإسقاط الخلافة الإسلامية من دعاة القومية العمياء بالأمس، وهي نفسها التي يتبناها اليوم من يسعون لمنع عودة الخلافة الإسلامية من دعاة القومية العمياء.
فكلا الفريقين، سواء كانوا فريق الأمس أو فريق اليوم، رضوا لأنفسهم أن يتلقوا الدعم المالي الخيالي لتنفيذ كل مخططاتهم ضد الإسلام وضد المشروع الإسلامي وضد الخلافة الإسلامية.
وكلا الفريقين أتقن فن التمثيل علينا. فإذا كان الفريق الأول قد تعمد استخدام المصطلحات القرآنية والنبوية لتمرير مآربه، فأنا أعلم -وعلمي من مصادر موثوقة- أن بعضًا من الفريق الثاني اليوم، الذي لا يزال حيًا، قد حاول مرتين أن يدعي أنه يريد أن يعلن إسلامه لأنه عربي من ديانة أخرى( مع التأكيد أننا ننظر إلى العالم العربي بكل مكوناته كحاضر واحد ومصير واحد، ولا إكراه في الدين).
وإذا كان الفريق الأول بالأمس قد لجأ لبناء شبكة صحف كذراع إعلامي له، فإن الفريق الثاني اليوم قد لجأ لإقامة قنوات فضائية وقنوات إعلامية كذراع إعلامي له.
وإذا كان الفريق الأول بالأمس قد لجأ لبناء أكاديميات كمحاضن للقومية العمياء تسعى لتخريج جيل يدعو إلى هذه القومية العمياء فإن الفريق الثاني اليوم قد لجأ لبناء أكاديميات ومراكز دراسات كمحاضن للقومية العمياء لتخريج جيل يدعو إلى هذه القومية وإذا كان الفرق الأول بالأمس قد أغدق الدعم المالي على جمعيات في العالم العربي بشرط أن تتكلم بصوته فإن الفريق الثاني اليوم لا يزال يغدق الدعم السخي على جمعيات معاصرة في بعض مواقع عالمنا العربي، بشرط أن تتكلم بصوته.
وقد يقول لي البعض: أنت غامض في هذه الفقرة بالذات من هذه المقالة، ولماذا لا تسمي الأمور بمسمياتها على المكشوف؟ وأنا بدوري أقول: أنا لا أتعمد الغموض في هذه الفقرة، بل سأسمي الأمور بمسمياتها على المكشوف في الوقت المناسب. ثم أؤكد أن الفريق الأول بالأمس، إن نجح وساهم في إسقاط الخلافة الإسلامية، وأن الفريق الثاني اليوم، إن نجح مؤقتًا وساهم مؤقتًا بمنع عودة الخلافة الإسلامية، فإن جهودهم ستتبعثر وستذروها رياح الخلافة الإسلامية القادمة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي ستملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا.